سورة غافر - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


قوله: {حم} قرأ الجمهور بفتح الحاء مشبعاً، وقرأ حمزة، والكسائي بإمالته إمالة محضة. وقرأ أبو عمرو بإمالته بين بين، وقرأ الجمهور: {حم} بسكون الميم كسائر الحروف المقطعة. وقرأ الزهري بضمها على أنها خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ، والخبر ما بعده. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي بفتحها على أنها منصوبة بفعل مقدر، أو على أنها حركة بناء لا حركة إعراب. وقرأ ابن أبي إسحاق، وأبو السماك بكسرها لالتقاء الساكنين، أو بتقدير القسم. وقرأ الجمهور بوصل الحاء بالميم. وقرأ أبو جعفر بقطعها.
وقد اختلف في معناه، فقيل: هو اسم من أسماء الله، وقيل: اسم من أسماء القرآن.
وقال الضحاك، والكسائي معناه: قضى، وجعلاه بمعنى حمّ أي: قضى، ووقع، وقيل: معناه حمّ أمر الله، أي: قرب نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه. وهذا كله تكلف لا موجب له، وتعسف لا ملجئ إليه، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة، وأمثالها: من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه كما قدّمنا تحقيقه في فاتحة سورة البقرة.
{تَنزِيلُ الكتاب} هو: خبر ل {حم} على تقدير أنه مبتدأ، أو خبر لمبتدأ مضمر، أو هو: مبتدأ، وخبره {مِنَ الله العزيز العليم} قال الرازي: المراد بتنزيل المنزل، والمعنى: أن القرآن منزل من عند الله ليس بكذب عليه. والعزيز: الغالب القاهر، والعليم: الكثير العلم بخلقه، وما يقولونه، ويفعلونه. {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب} قال الفرّاء: جعلها كالنعت للمعرفة، وهي: نكرة، ووجه قوله هذا: أن إضافتها لفظية، ولكنه يجوز أن تجعل إضافتها معنوية كما قال سيبويه: إن كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة، وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة. وأما الكوفيون، فلم يستثنوا شيئاً بل جعلوا الصفة المشبهة كاسم الفاعل في جواز جعلها إضافة محضة، وذلك حيث لا يراد بها زمان مخصوص، فيجوّزون في {شديد} هنا أن تكون إضافته محضة. وعلى قول سيبويه: لا بدّ من تأويله بمشدّد.
وقال الزجاج: إن هذه الصفات الثلاث مخفوضة على البدل.
وروي عنه: أنه جعل غافر، وقابل مخفوضين على الوصف، وشديد مخفوض على البدل، والمعنى: غافر الذنب لأوليائه، وقابل توبتهم، وشديد العقاب لأعدائه، والتوب مصدر بمعنى: التوبة من تاب يتوب توبة، وتوباً، وقيل: هو جمع توبة، وقيل: غافر الذنب لمن قال: لا إله إلا الله، وقابل التوب من الشرك، وشديد العقاب لمن لا يوحده، وقوله: {ذِى الطول} يجوز أن يكون صفة، لأنه معرفة، وأن يكون بدلاً، وأصل الطول الإنعام، والتفضل، أي: ذي الإنعام على عباده، والتفضل عليهم.
وقال مجاهد: ذي الغنى، والسعة. ومنه قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] أي: غنى، وسعة، وقال عكرمة: ذي الطول ذي المنّ.
قال الجوهري: والطول بالفتح المنّ يقال منه: طال عليه، ويطول عليه إذا امتنّ عليه.
وقال محمد بن كعب: ذي الطول ذي التفضل. قال الماورودي: والفرق بين المنّ، والتفضل: أن المنّ عفو عن ذنب، والتفضل إحسان غير مستحقّ. ثم ذكر ما يدلّ على توحيده، وأنه الحقيق بالعبادة، فقال: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير} لا إلى غيره، وذلك في اليوم الآخر.
ثم لما ذكر أن القرآن كتاب الله أنزله؛ ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل فيه لقصد إبطاله، فقال: {مَا يجادل فِى ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} أي: ما يخاصم في دفع آيات الله، وتكذيبها إلا الذين كفروا، والمراد: الجدال بالباطل، والقصد إلى دحض الحقّ كما في قوله: {وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق}. فأما الجدال لاستيضاح الحقّ، ورفع اللبس، والبحث عن الراجح، والمرجوح، وعن المحكم، والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردّهم بالجدال إلى المحكم، فهو من أعظم ما يتقرّب المتقرّبون، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، وقال: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بيناه لِلنَّاسِ فِي الكتاب أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} [البقرة: 159]، وقال: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد} لما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر، نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يغترّ بشيء من حظوظهم الدنيوية، فقال: فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة في البلاد، وما يحصلونه من الأرباح، ويجمعونه من الأموال، فإنهم معاقبون عما قليل، وإن أمهلوا، فإنهم لا يهملون. قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك. قرأ الجمهور: {لا يغررك} بفك الإدغام. وقرأ زيد بن عليّ، وعبيد بن عمير بالإدغام.
ثم بيّن حال من كان قبلهم، وأن هؤلاء سلكوا سبيل أولئك في التكذيب، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ} الضمير في من بعدهم يرجع إلى قوم نوح، أي: وكذبت الأحزاب الذين تحزّبوا على الرسل من بعد قوم نوح كعاد، وثمود {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي: همت كلّ أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم الذي أرسل إليهم؛ ليأخذوه؛ ليتمكنوا منه، فيحبسوه، ويعذبوه، ويصيبوا منه ما أرادوا.
وقال قتادة، والسدّي: ليقتلوه، والأخذ قد يرد بمعنى: الإهلاك، كقوله: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] والعرب تسمي الأسير: الأخيذ {وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} أي: خاصموا رسولهم بالباطل من القول، ليدحضوا به الحق؛ ليزيلوه، ومنه مكان دحض، أي: مزلقة، ومزلة أقدام، والباطل داحض؛ لأنه يزلق، ويزول، فلا يستقرّ.
قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك؛ ليبطلوا به الإيمان {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي: فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل، فكيف كان عقابي الذي عاقبتهم به، وحذف ياء المتكلم من عقاب اجتزاء بالكسرة عنها وصلا، ووقفا؛ لأنها رأس آية {وكذلك حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} أي: وجبت، وثبتت، ولزمت، يقال: حقّ الشيء إذا لزم، وثبت، والمعنى: وكما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم حقت على الذين كفروا به، وجادلوك بالباطل، وتحزبوا عليك، وجملة: {أَنَّهُمْ أصحاب النار} للتعليل، أي: لأجل أنهم مستحقون للنار. قال الأخفش: أي لأنهم، أو بأنهم. ويجوز أن تكون في محل رفع بدلاً من كلمة. قرأ الجمهور: {كلمة} بالتوحيد، وقرأ نافع، وابن عامر: {كلمات} بالجمع.
ثم ذكر أحوال حملة العرش، ومن حوله، فقال: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ}، والموصول مبتدأ، وخبره يسبحون بحمد ربهم، والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ببيان أن هذا الجنس من الملائكة الذين هم أعلى طبقاتهم يضمون إلى تسبيحهم لله، والإيمان به الاستغفار للذين آمنوا بالله، ورسوله، وصدّقوا، والمراد بمن حول العرش: هم: الملائكة الذين يطوفون به مهللين مكبرين، وهو في محل رفع عطفاً على الذين يحملون العرش، وهذا هو الظاهر. وقيل: يجوز أن تكون في محل نصب عطفاً على العرش، والأوّل أولى. والمعنى: أن الملائكة الذين يحملون العرش، وكذلك الملائكة الذين هم حول العرش ينزهون الله ملتبسين بحمده على نعمه، ويؤمنون بالله، ويستغفرون الله لعباده المؤمنين به. ثم بيّن سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين، فقال حاكياً عنهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَئ رَّحْمَةً وَعِلْماً}، وهو بتقدير القول، أي يقولون ربنا، أو قائلين: ربنا وسعت كل شيء رحمة، وعلماً. انتصاب {رحمة}، و{علماً} على التمييز المحوّل عن الفاعل، والأصل وسعت رحمتك، وعلمك كل شيء {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} أي: أوقعوا التوبة عن الذنوب، واتبعوا سبيل الله، وهو دين الإسلام {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} أي: احفظهم منه.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ} و{أدخلهم} معطوف على قوله: {قهم}، ووسط الجملة الندائية لقصد المبالغة بالتكرير، ووصف جنات عدن بأنها {التى وَعَدْتَّهُمْ} إياها {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ} أي: وأدخل من صلح، والمراد بالصلاح ها هنا: الإيمان بالله، والعمل بما شرعه الله، فمن فعل ذلك، فقد صلح لدخول الجنة، ويجوز عطف، ومن صلح على الضمير في وعدتهم، أي: ووعدت من صلح، والأولى عطفه على الضمير الأوّل في وأدخلهم، قال الفراء، والزجاج: نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في أدخلهم. وإن شئت على الضمير في وعدتهم. قرأ الجمهور بفتح اللام من صلح. وقرأ ابن أبي عيلة بضمها، وقرأ الجمهور: {وذرياتهم} على الجمع. وقرأ عيسى بن عمر على الإفراد {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي: الغالب القاهر الكثير الحكمة الباهرة.
{وَقِهِمُ السيئات} أي: العقوبات، أو جزاء السيئات على تقدير مضاف محذوف. قال قتادة: وقهم ما يسوؤهم من العذاب {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ} أي: يوم القيامة {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} يقال: وقاه يقيه وقاية، أي: حفظه، ومعنى {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أي: رحمته من عذابك، وأدخلته جنتك، والإشارة بقوله: {وَذَلِكَ} إلى ما تقدّم من إدخالهم الجنات، ووقايتهم السيئات، وهو مبتدأ، وخبره: {هُوَ الفوز العظيم} أي: الظفر الذي لا ظفر مثله، والنجاة التي لا تساويها نجاة.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: {حم} اسم من أسماء الله.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف، وأبو عبيد، وابن سعد، وابن أبي شيبة، وأبو داود، والترمذي، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن المهلب بن أبي صفرة قال: حدّثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليلة الخندق: «إن أتيتم الليلة، فقولوا حملا ينصرون».
وأخرج ابن أبي شيبة، والنسائي، والحاكم، وابن مردويه عن البراء بن عازب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم تلقون عدوّكم، فليكن شعاركم حملا ينصرون».
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {ذِى الطول} قال: ذي السعة، والغنى.
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن ابن عمر في قوله: {غَافِرِ الذنب} الآية قال: غافر الذنب لمن يقول: لا إله إلاّ الله {وَقَابِلِ التوب} ممن يقول: لا إله إلاّ الله {شَدِيدُ العقاب} لمن لا يقول: لا إله إلاّ الله {ذِى الطول} ذي الغنى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} كانت كفار قريش لا يوحدونه، فوحد نفسه {إِلَيْهِ المصير} مصير من يقول: لا إله إلاّ الله، فيدخله الجنة، ومصير من لا يقول: لا إله إلاّ الله، فيدخله النار.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن جدالاً في القرآن كفر».
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مراء في القرآن كفر».


لما ذكر سبحانه حال أصحاب النار، وأنها حقت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار ذكر أحوالهم بعد دخول النار، فقال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ}. قال الواحدي: قال المفسرون: إنهم لما رأوا أعمالهم، ونظروا في كتابهم، وأدخلوا النار، ومقتوا أنفسهم بسوء صنيعهم ناداهم حين عاينوا عذاب الله مناد: {لَمَقْتُ الله} إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان، فتكفرون {أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} اليوم. قال الأخفش: هذه اللام في لمقت هي: لام الابتداء أوقعت بعد ينادون؛ لأن معناه: يقال لهم، والنداء قول. قال الكلبي: يقول كل إنسان لنفسه من أهل النار: مقتك يا نفس، فتقول الملائكة لهم، وهم في النار: لمقت الله إياكم في الدنيا أشدّ من مقتكم أنفسكم اليوم.
وقال الحسن: يعطون كتابهم، فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم، فينادون: لمقت الله إياكم في الدنيا {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان} أكبر من مقتكم أنفسكم إذ عاينتم النار، والظرف في: {إِذْ تَدْعُونَ} منصوب بمقدّر محذوف دلّ عليه المذكور، أي: مقتكم وقت دعائكم. وقيل: بمحذوف هو: اذكروا. وقيل: بالمقت المذكور، والمقت أشدّ البغض.
ثم أخبر سبحانه عما يقولون في النار، فقال: {قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} اثنتين في الموضعين نعتان لمصدر محذوف، أي: أمتنا إماتتين اثنتين، وأحييتنا إحياءتين اثنتين، والمراد بالإماتتين: أنهم كانوا نطفاً لا حياة لهم في أصلاب آبائهم، ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا، والمراد بالإحياءتين: أنه أحياهم الحياة الأولى في الدنيا، ثم أحياهم عند البعث، ومثل هذه الآية قوله: {وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]. وقيل: معنى الآية: أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم، ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال، ثم أميتوا، ثم أحياهم الله في الآخرة، ووجه هذا القول: أن الموت سلب الحياة، ولا حياة للنطفة. ووجه القول الأوّل: أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل، وقد ذهب إلى تفسير الأوّل جمهور السلف.
وقال ابن زيد: المراد بالآية: أنه خلقهم في ظهر آدم، واستخرجهم، وأحياهم، وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم، ثم أحياهم في الدنيا، ثم أماتهم. ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا، فقال حاكياً عنهم: {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا} التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب الرّسل، والإشراك بالله، وترك توحيده، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدّمة لقولهم: {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} أي: هل إلى خروج لنا من النار، ورجوع لنا إلى الدنيا من سبيل، ومثل هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم: {فَهَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ} [الشورى: 44]، وقوله: {فارجعنا نَعْمَلْ صالحا} [السجدة: 12]، وقوله: {ياليتنا نُرَدُّ} [الأنعام: 27] الآية.
ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم هذا بقوله: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} أي: ذلك الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره كفرتم به، وتركتم توحيده {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ} غيره من الأصنام، أو غيرها {تُؤْمِنُواْ} بالإشراك به، وتجيبوا الدّاعي إليه، فبيّن سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار، وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله، وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدّعاء، ومحل ذلكم الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلكم، أو مبتدأ خبره محذوف، أي: ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بذلك السبب، وفي الكلام حذف، والتقدير: فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرّدّ، وذلك لأنكم كنتم إذا دعي الله... إلخ {فالحكم للَّهِ}: وحده دون غيره، وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار، وعدم الخروج منها، و{العلى}: المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته، ولا صفاته، و{الكبير}: الذي كبر عن أن يكون له مثل، أو صاحبة، أو ولد، أو شريك {هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته} أي: دلائل توحيده، وعلامات قدرته {وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السماء رِزْقاً} يعني: المطر، فإنه سبب الأرزاق. جمع سبحانه بين إظهار الآيات، وإنزال الأرزاق، لأن بإظهار الآيات قوام الأديان، وبالأرزاق قوام الأبدان، وهذه الآيات هي: التكوينية التي جعلها الله سبحانه في سمواته، وأرضه، وما فيهما، وما بينهما. قرأ الجمهور: {ينزل} بالتشديد. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالتخفيف {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} أي: ما يتذكر، ويتعظ بتلك الآيات الباهرة، فيستدلّ بها على التوحيد، وصدق الوعد، والوعيد إلا من ينيب، أي: يرجع إلى طاعة الله بما يستفيده من النظر في آيات الله.
ثم لما ذكر سبحانه ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه، وإخلاص الدّين له، فقال: {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي: إذا كان الأمر كما ذكر من ذلك، فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} ذلك، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم، ودعوهم يموتوا بغيظهم، ويهلكوا بحسرتهم. {رَفِيعُ الدرجات}، وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر آخر عن المبتدأ المتقدّم أي: هو الذي يريكم آياته، وهو رفيع الدرجات. وكذلك {ذُو العرش} خبر ثالث، ويجوز أن يكون رفيع الدرجات مبتدأ، وخبره {ذُو العرش}، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف، ورفيع صفة مشبهة، والمعنى: رفيع الصفات، أو رفيع درجات ملائكته، أي: معارجهم، أو رفيع درجات أنبيائه، وأوليائه في الجنة.
وقال الكلبي، وسعيد بن جبير: رفيع السموات السبع، وعلى هذا الوجه يكون رفيع بمعنى: رافع، ومعنى، ذو العرش: مالكه، وخالقه، والمتصرف فيه، وذلك يقتضي علوّ شأنه، وعظم سلطانه، ومن كان كذلك، فهو الذي يحقّ له العبادة، ويجب له الإخلاص، وجملة: {يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ} في محل رفع على أنها خبر آخر للمبتدأ المتقدّم، أو للمقدّر، ومعنى ذلك: أنه سبحانه يلقي الوحي {على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ}، وسمي الوحي: روحاً، لأن الناس يحيون به من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح، وقوله: {مِنْ أَمْرِهِ} متعلق ب {يلقى}، و{من} لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الروح، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. وقيل: الروح جبريل كما في قوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194]، وقوله: {نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبّكَ بالحق} [النحل: 102]، وقوله: {على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} هم: الأنبياء، ومعنى {مِنْ أَمْرِهِ}: من قضائه {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} قرأ الجمهور: {لينذر} مبنياً للفاعل، ونصب اليوم، والفاعل هو: الله سبحانه، أو الرسول، أو من يشاء، والمنذر به محذوف تقديره: لينذر العذاب يوم التلاق. وقرأ أبيّ، وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازاً. وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن السميفع: {لتنذر} بالفوقية على أن الفاعل ضمير المخاطب، وهو: الرسول، أو ضمير يرجع إلى الرّوح؛ لأنه يجوز تأنيثها. وقرأ اليماني: {لينذر} على البناء للمفعول، ورفع يوم على النيابة، ومعنى {يَوْمَ التلاق}: يوم يلتقي أهل السموات، والأرض في المحشر، وبه قال قتادة.
وقال أبو العالية، ومقاتل: يوم يلتقي العابدون، والمعبودون، وقيل: الظالم، والمظلوم. وقيل: الأوّلون، والآخرون. وقيل: جزاء الأعمال، والعاملون.
وقوله: {يَوْمَ هُم بارزون} بدل من يوم التلاق.
وقال ابن عطية: هو منتصب بقوله: {لاَ يخفى عَلَى الله} وقيل: منتصب بإضمار اذكر، والأوّل أولى، ومعنى بارزون: خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء، وجملة: {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَئ} مستأنفة مبينة لبروزهم، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير بارزون، ويجوز أن تكون خبراً ثانياً للمبتدأ، أي: لا يخفى عليه سبحانه شيء منهم، ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وجملة: {لّمَنِ الملك اليوم} مستأنفة جواب عن سؤال مقدّر كأنه قيل: فماذا يقال عند بروز الخلائق في ذلك اليوم؟، فقيل: يقال: لمن الملك اليوم؟ قال المفسرون: إذا هلك كل من في السموات، والأرض، فيقول الرّبّ تبارك وتعالى: {لّمَنِ الملك اليوم} يعني: يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فيجيب تعالى نفسه، فيقول: {للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} قال الحسن: هو السائل تعالى، وهو المجيب حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه. وقيل: إنه سبحانه يأمر منادياً ينادي بذلك، فيقول أهل المحشر مؤمنهم، وكافرهم: {للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} وقيل: إنه يجيب المنادي بهذا الجواب أهل الجنة دون أهل النار.
وقيل: هو حكاية لما ينطق به لسان الحال في ذلك اليوم لانقطاع دعاوي المبطلين، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 17 19]، وقوله: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} من تمام الجواب على القول بأن المجيب هو: الله سبحانه، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم، أو بعضهم، فهو: مستأنف لبيان ما يقوله الله سبحانه بعد جوابهم أي: اليوم تجزى كل نفس بما كسبت من خير وشرّ لا ظلم اليوم على أحد منهم بنقص من ثوابه، أو بزيادة في عقابه {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي: سريع حسابه، لأنه سبحانه لا يحتاج إلى تفكر في ذلك كما يحتاجه غيره لإحاطة علمه بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة.
ثم أمر الله سبحانه رسوله: بإنذار عباده، فقال: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة} أي: يوم القيامة سميت بذلك لقربها، يقال: أزف فلان، أي: قرب يأزف أزفاً، ومنه قول النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا *** لما تزل بركابنا وكأن قد
ومنه قوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزفة} [النجم: 57] أي: قربت الساعة. وقيل: إن يوم الآزفة هو: يوم حضور الموت، والأوّل أولى. قال الزجاج: وقيل لها: آزفة؛ لأنها قريبة، وإن استبعد الناس أمرها، وما هو كائن، فهو: قريب {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كاظمين} وذلك أنها تزول عن مواضعها من الخوف حتى تصير إلى الحنجرة كقوله: {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10]. {كاظمين} مغمومين مكروبين ممتلئين غمًّا. قال الزجاج: المعنى: إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم. قال قتادة: وقعت قلوبهم في الحناجر من المخافة، فهي لا تخرج، ولا تعود في أمكنتها. وقيل: هو إخبار عن نهاية الجزع، وإنما قال كاظمين باعتبار أهل القلوب، لأن المعنى: إذ قلوب الناس لدى حناجرهم، فيكون حالاً منهم. وقيل: حالاً من القلوب، وجمع الحال منها جمع العقلاء؛ لأنه أسند إليها ما يسند إلى العقلاء فجمعت جمعه. ثم بين سبحانه: أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد، فقال: {مَا للظالمين مِنْ حَمِيمٍ} أي: قريب ينفعهم {وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} في شفاعته لهم، ومحل {يطاع} الجر على أنه صفة ل {شفيع}.
ثم وصف سبحانه شمول علمه لكل شيء، وإن كان في غاية الخفاء فقال: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين}، وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه، والجملة خبر آخر لقوله: {هُوَ الذى يُرِيكُمُ} قال المؤرج: فيه تقديم، وتأخير، أي: يعلم الأعين الخائنة.
وقال قتادة: خائنة الأعين: الهمز بالعين فيما لا يحب الله.
وقال الضحاك: هو قول الإنسان ما رأيت، وقد رأى، ورأيت، وما رأى.
وقال سفيان: هي: النظرة بعد النظرة. والأول أولى، وبه قال مجاهد {وَمَا تُخْفِى الصدور} من الضمائر، وتسرّه من معاصي الله {والله يَقْضِى بالحق} فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير، وشرّ {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أي: تعبدونهم من دون الله {لاَ يَقْضُونَ بِشَئ}، لأنهم لا يعلمون شيئاً، ولا يقدرون على شيء. قرأ الجمهور: {يدعون} بالتحتية يعني: الظالمين، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، وقرأ نافع، وشيبة، وهشام بالفوقية على الخطاب لهم {إِنَّ الله هُوَ السميع البصير}، فلا يخفى عليه من المسموعات، والمبصرات خافية.
وقد أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله: {أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} قال: هي مثل التي في البقرة {كُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] كانوا أمواتاً في صلب آبائهم، ثم أخرجهم، فأحياهم، ثم أماتهم، ثم يحييهم بعد الموت.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كنتم تراباً قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم، فخلقكم، فهذه حياة، ثم يميتكم، فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه حياة، فهما موتتان، وحياتان كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} الآية.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ التلاق} قال: يوم القيامة يلتقي فيه آدم، وآخر ولده.
وأخرج عنه أيضاً قال: {يَوْمَ التلاق} يوم الآزفة، ونحو هذا من أسماء يوم القيامة عظمه الله، وحذره عباده.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وأبو نعيم في الحلية عنه أيضاً قال: «ينادي مناد بين يدي الساعة: يا أيها الناس أتتكم الساعة، فيسمعها الأحياء، والأموات، وينزل الله إلى السماء الدنيا، فيقول: {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار}».
وأخرج ابن أبي الدنيا في البعث، والديلمي عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وأخرج عبد بن حميد، عن ابن مسعود قال: «يجمع الله الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأوّل ما يتكلم أن ينادي منادٍ: {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} فأول ما يبدأ به من الخصومات الدماء».
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِى الصدور} قال: الرجل يكون في القوم، فتمرّ بهم المرأة، فيريهم أنه يغضّ بصره عنها، وإذا غفلوا لحظ إليها، وإذا نظروا غضّ بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ودّ أن ينظر إلى عورتها.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال: إذا نظر إليها يريد الخيانة أم لا {وَمَا تُخْفِى الصدور} قال: إذا قدر عليها أيزني بها أم لا؟ ألا أخبركم بالتي تليها {والله يَقْضِى بالحق} قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة، وبالسيئة السيئة.
وأخرج أبو داود، والنسائي، وابن مردويه عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة أمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر، وامرأتين، وقال: «اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به. فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى بيعته، ثم بايعه، ثم أقبل على أصحابه، فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته، فيقتله؟» فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك؟، فقال: «إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين».


لما خوّفهم سبحانه بأحوال الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا، فقال: {أَوَ لَمْ يَسِيروُاْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ} أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم، فإن الذين مضوا من الكفار {كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} من هؤلاء الحاضرين من الكفار، وأقوى {وَآثَاراً فِي الأرض} بما عمروا فيها من الحصون والقصور، وبما لهم من العدد والعدّة، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله. وقوله: {فَيَنظُرُواْ} إما مجزوم بالعطف على يسيروا، أو منصوب بجواب الاستفهام، وقوله: {كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} بيان للتفاوت بين حال هؤلاء وأولئك. وقوله: {وَءاثَاراً} عطف على قوّة. قرأ الجمهور: {أشد منهم}، وقرأ ابن عامر: {أشد منكم} على الالتفات {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} أي: بسبب ذنوبهم {وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ} أي: من دافع يدفع عنهم العذاب، وقد مرّ تفسير هذه الآية في مواضع، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم من الأخذ {بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي: بالحجج الواضحة {فَكَفَرُواْ} بما جاءوهم به {فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ} يفعل كلّ ما يريده لا يعجزه شيء {شَدِيدُ العقاب} لمن عصاه، ولم يرجع إليه.
ثم ذكر سبحانه قصة موسى، وفرعون؛ ليعتبروا، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا} هي: التسع الآيات التي قد تقدّم ذكرها في غير موضع {وسلطان مُّبِينٍ} أي: حجة بينة واضحة، وهي: التوراة {إلى فِرْعَوْنَ وهامان وَقَشرُونَ فَقَالُواْ} إنه {ساحر كَذَّابٌ} أي: فيما جاء به، وخصهم بالذكر؛ لأنهم رؤساء المكذبين بموسى، ففرعون الملك، وهامان الوزير، وقارون صاحب الأموال، والكنوز {فَلَمَّا جَاءهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا}، وهي: معجزاته الظاهرة الواضحة {قَالُواْ اقتلوا أَبْنَاء الذين ءامَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَاءهُمْ} قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأوّل، لأن فرعون قد كان أمسك عن قتل الولدان وقت ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل، فكان يأمر بقتل الذكور، وترك النساء، ومثل هذا قول فرعون: {سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ} [الأعراف: 127] {وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال} أي: في خسران ووبال، لأنه يذهب باطلاً، ويحيق بهم ما يريده الله عزّ وجلّ.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى} إنما قال هذا؛ لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى مخافة أن ينزل بهم العذاب، والمعنى: اتركوني أقتله {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} الذي يزعم: أنه أرسله إلينا، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك، أي: لا يهولنكم ذلك، فإنه لا ربّ له حقيقة؛ بل أنا ربكم الأعلى، ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله، فقال: {إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ} الذي أنتم عليه من عبادة غير الله، ويدخلهم في دينه الذي هو: عبادة الله وحده {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرض الفساد} أي: يوقع بين الناس الخلاف، والفتنة، جعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى، وانتشاره في الأرض، واهتداء الناس به فساداً، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو، ومن تابعه.
قرأ الكوفيون، ويعقوب: {أو أن يظهر} بأو التي للإبهام، والمعنى: أنه لا بدّ من وقوع أحد الأمرين. وقرأ الباقون: {وأن يظهر} بدون ألف على معنى: وقوع الأمرين جميعاً، وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بفتح الياء من: {إني أخاف}، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص: {يظهر} بضم الياء، وكسر الهاء من أظهر، وفاعله ضمير موسى، والفساد نصباً على أنه مفعول به، وقرأ الباقون بفتح الياء، والهاء، ورفع الفساد على الفاعلية {وَقَالَ موسى إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {عذت} بإدغام الذال، وقرأ الباقون بالإظهار، لما هدّده فرعون بالقتل استعاذ بالله عزّ وجلّ من كلّ متعظم عن الإيمان بالله غير مؤمن بالبعث، والنشور، ويدخل فرعون في هذا العموم دخولاً أوّلياً.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانه} قال الحسن، ومقاتل، والسدّي: كان قبطياً، وهو: ابن عم فرعون، وهو الذي نجا مع موسى، وهو المراد بقوله: {وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} [القصص: 20] الآية، وقيل: كان من بني إسرائيل، ولم يكن من آل فرعون، وهو خلاف ما في الآية، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً، وتأخيراً، والتقدير: وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون. قال القشيري: ومن جعله إسرائيلياً، ففيه بعد، لأنه يقال: كتمه أمر كذا، ولا يقال: كتم منه كما قال سبحانه: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42]، وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول.
وقد اختلف في اسم هذا الرجل، فقيل: حبيب. وقيل: حزقيل. وقيل غير ذلك، قرأ الجمهور: {رجل} بضم الجيم، وقرأ الأعمش، وعبد الوارث بسكونها، وهي: لغة تميم، ونجد، والأولى هي: الفصيحة، وقرئ بكسر الجيم و{مؤمن} صفة لرجل، و{من آل فرعون} صفة أخرى، و{يكتم إيمانه} صفة ثالثة، والاستفهام في {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} للإنكار، و{أَن يَقُولَ رَبّىَ الله} في موضع نصب بنزع الخافض، أي: لأن يقول، أو كراهة أن يقول، وجملة: {وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات مِن رَّبّكُمْ} في محل نصب على الحال، أي: والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات، والدلالات الظاهرات على نبوّته، وصحة رسالته، ثم تلطف لهم في الدفع عنه، فقال: {وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ}، ولم يكن قوله هذا لشك منه، فإنه كان مؤمناً كما وصفه الله.
ولا يشك المؤمن، ومعنى {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ} أنه إذا لم يصبكم كله، فلا أقلّ من أن يصيبكم بعضه، وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفاً لكثرة الاستعمال، كما قال سيبويه، وقال أبو عبيدة، وأبو الهيثم: بعض هنا بمعنى: كل، أي: يصبكم كلّ الذي يعدكم، وأنشد أبو عبيدة على هذا قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها *** أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أي: كلّ النفوس، وقد اعترض عليه، وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى: الكلّ كما في قول الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقول الآخر:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها *** دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
وليس في البيتين ما يدلّ على ما زعموه، وأما بيت لبيد، فقيل: إنه أراد ببعض النفوس نفسه، ولا ضرورة تلجئ إلى حمل ما في الآية على ذلك، لأنه أراد التنزّل معهم، وإيهامهم: أنه لا يعتقد صحة نبوّته كما يفيده قوله: {يَكْتُمُ إيمانه} قال أهل المعاني: وهذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقلّ ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل.
وقال الليث: بعض ها هنا صلة يريد يصبكم الذي يعدكم. وقيل: يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا، وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب. وقيل: إنه وعدهم بالثواب، والعقاب، فإذا كفروا أصابهم العقاب، وهو بعض ما وعدهم به {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} هذا من تمام كلام الرجل المؤمن، وهو: احتجاج آخر ذو وجهين: أحدهما: أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات، ولا أيده بالمعجزات، وثانيهما: أنه إذا كان كذلك خذله الله، وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب المفتري.
{ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الأرض} ذكرهم ذلك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك، ليشكروا الله، ولا يتمادوا في كفرهم، ومعنى {ظاهرين}: الظهور على الناس، والغلبة لهم، والاستعلاء عليهم، والأرض أرض مصر، وانتصاب {ظاهرين} على الحال {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءنَا} أي: من يمنعنا من عذابه، ويحول بيننا، وبينه عند مجيئه، وفي هذا تحذير منه لهم من نقمة الله بهم، وإنزال عذابه عليهم، فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة، والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكاً يكون فيه جلب النفع لهم، ودفع الضرّ عنهم، ولهذا قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أرى} قال ابن زيد: أي: ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي.
وقال الضحاك: ما أعلمكم إلا ما أعلم، والرؤية هنا هي القلبية لا البصرية، والمفعول الثاني هو إلا ما أرى {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} أي: ما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الحقّ. قرأ الجمهور: {الرشاد} بتخفيف الشين، وقرأ معاذ بن جبل بتشديدها على أنها صيغة مبالغة كضرّاب.
وقال النحاس: هي: لحن، ولا وجه لذلك.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} قال: لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره، وغير امرأة فرعون، وغير المؤمن الذي أنذر موسى الذي قال: {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] قال ابن المنذر: أخبرت أن اسمه حزقيل.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق قال: اسمه حبيب.
وأخرج البخاري، وغيره من طريق عروة قال: قيل لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرنا بأشدّ شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ الله وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات مِن رَّبّكُمْ}».
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة، والبزار عن عليّ بن أبي طالب، أنه قال: أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت. قال: أما أني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذته قريش، فهذا يجنبه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلاهاً واحداً، قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجيء هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله}، ثم رفع بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟، فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، وذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه.

1 | 2 | 3